“صناجة” الأمازيغ الشاعر أحماد أوهاشم.. راعي الغنم الذي يتغنى بالحياة بمزامير الحرية والجمال

نشر بتاريخ 20 يناير 2015 20:53:07

في قرية ملاعب الصغيرة (100 كلم عن الرشيدية) في حجمها، الكبيرة بحكايات أهلها البسطاء، يرتل ترانيم الحرية والجمال، مرتع صباه شأنه شأن سائر أبناء القرى والكثبان والأودية التي ترقد باطمئنان بواحات تافيلالت، ولد “صناجة” الامازيغ الشاعر العصامي احماد أوهاشم راعي الغنم الذي فاض وجدانه حكما وقولا منظوما.
على آلة لوتار وهو من أشهر العازفين عليها يحاكي الإيقاعات وألوان الكلمات التي تتوحد فيها جمالية الابداع وبساطته.. في خريف العمر لم تمح آثار الزمان ولا أوجاع الأيام ما تبقى من ذاكرته المتقدة التي تسترجع صدى احتفالية الذات الشاعرة وتسهر مع القصائد الحبلى بالرغبات والاماني والاحلام الكبيرة.. وهبته شمس الصحراء صلابة وعزيمة الرجال الذين عشقوا التغني بآهات البسطاء في كبرياء وعزة نفس.
“أحتاج فقط لمن يتذوق فني” هي أغلى أماني أوهاشم الذي لا تفارق الابتسامة محياه، والذي يعيش بفنه في انسجام تام مع أسرته، إذ تفتخر زوجته و أبناؤه بوضعه الفني في وسط لا يتيح ذلك بسهولة. هذه التجربة الفنية سلط عليها الضوء المخرج والناقد السينمائي عامر الشرقي في شريطه الوثائقي (همسات الأعالي) الذي يعتبر مساهمة فعالة في التعريف بثروات الجنوب الشرقي الشعرية، واعترافا بعطاء هذا الفنان الذي تم تكريمه مؤخرا بالمهرجان الوطني للوتار في دورته الثانية إلى جانب مجموعة من الوجوه البارزة في الفن الشعبي من قبيل قشبال وزروال والشيخ عويسة…
البيئة الصحراوية التي نشأ فيها كان لها تأثير كبير على حياته و اختياراته، كما يقول عنه الشرقي، فمنطقة الجنوب الشرقي ارتبطت على الدوام بثقافته المتنوعة التي تختلط فيها الإيقاعات والألوان وتتوحد في جمالياتها و بساطتها. في هذه البيئة نشأ و ترعرع أوهاشم حيث شارك الأطفال منذ الصغر في رقصات احيدوس حرصا من قبائل آيت عطا وآيت مرغاد على تأصيل هذا الشكل الاحتفالي في منطقة عرفت بالعديد من الشعراء (إمديازن) الذين كانوا يؤثثون الجلسات بإبداعاتهم الشعرية.
بعينين شبه مغمضتين وعمامته الصفراء وصدره المفعم بالحكايات والصور وبساطته يكشف أوهاشم، في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، عن الرحلة الطويلة التي صقلت تجربته في الحياة ..” منذ السابعة من عمري بدأت بالعزف ككل أبناء المنطقة البسطاء على آلة الوتار وهي من صنع يدوي ثم عزفت على الناي و بدأت بقرض الشعر تأثرا بمحيطي وببعض أفراد عائلتي”.
وبنمطه الفريد في العزف والغناء كما في أسلوبه المتميز في الحكي تبرز شخصية أوهاشم الانسان الذي رغم عمر يناهز السبعين ربيعا إلا أنه ما يزال يغرد مثل الكروان. غنى أوهاشم أو الشيخ كما يحلو للبعض من بلدته أن يسميه بتموجات الروح مواضيع اجتماعية مختلفة فاحتفى بالطفولة والمرأة والقبيلة والحب والوطن.. فكانت أبرز إبداعاته التي وشمت بماء من ذهب مسيرته الفنية الطويلة، التي اختبر فيها قدرة آلة لوتار على احتضان تلوينات موسيقية مغايرة وجديدة بالنسبة للموسيقى الأمازيغية.
لم يكن يدرك أن خطاه منذ الطفولة التي أمضاها في الرعي لأزيد من ثلاثة عقود لجني قوت يومه بين جنبات قريته الصغيرة ستقوده يوما إلى حمل رسالة القول المنظوم في رحلة طويلةº إلى أن صار من طينة الشعراء المغنين القلائل الذين التزموا بالقضايا الجوهرية التي تمس وجود الإنسان بالواحات.
وفي هذا الإطار، قال الباحث في التراث والثقافة الشعبية عمر حمداوي، إن “النشاط الرعوي شكل مدرسة تربوية تخرج منها العديد من الحكماء والشعراء كما هو الحال بالنسبة للشاعر والفنان والعازف الأمازيغي أوهاشم الذي أسرته المراعي منذ الطفولة ومنحته نبوغا فكريا كبديل عن حرمانه من ولوج الكتاب والمدرسة لمحاربة الامية الابجدية على غرار الأقران”، مضيفا ان هذا الشاعر عبر عن ذلك بما معناه: “رغم كوني شاعرا لم أتعلم قط، إلا أنني أملك معاني لا يجيدها إلا العقلاء”.
وأبرز أن هذا النبوغ تجلى في حنكته المبكرة في نظم الشعر الأمازيغي بمختلف أجناسه وأغراضه مما جعله يحظى بلقب “إتري ن انشادن” (نجم المنشدين) وبتقدير من لدن محيطه الذي يجد في شعره متنفسا للتعبير عما يخالجه من آلام وآمال، فضلا عن براعته في العزف على آلة الناي رفيقة الرعاة وآلة “لوتار” التي صنعها بنفسه، ثم آلة البندير سيدة الآلات في احتفالات جميع المكونات الإثنية بالمنطقة.
وإلى جانب مدرسة الرعي شكل الاحتكاك اليومي لمختلف شرائح المجتمع ومعانقة الأسفار بحثا عن لقمة العيش والحرص على الحضور والمشاركة في المناسبات الاجتماعية التي لا تخلو من مساجلات شعرية ورقصات فلكلورية مصحوبة بمرددات وأهازيج شعبية، يضيف حمداوي، أهم الروافد التي غذت الملكة الشعرية لأوهاشم الذي أثث الساحة الفنية الأمازيغية بكم هائل من الأشعار والأغاني التي يستقي موضوعاتها من وحي الواقع المعيش.
وعن البلاغة الشعرية في ابداع أوهاشم يقول الباحث الحو ختار، إن هذا الشاعر يوظف عناصر الذاكرة الثقافية توظيفا رمزيا، خاصة الحكايات والأمثال والرموز والألغاز وغيرها، ليكون الشعر خزان متخيل الجماعة البشرية التي ينتمي إليها الشاعر، وضامن انسجام هذا المتخيل واستمراره عبر الزمان والمكان، مضيفا أن شعر الشيخ أحمد أوهاشم لا يشذ عن هذه الخاصيات الابداعية، بل هي من السمات المميزة له، والتي تجعل منه خطابا جماليا بامتياز.
جمالية الشعر وبلاغته عند أوهاشم تعود إلى كون هذا الشاعر يؤسس في شعره عالما متخيلا تتحاور فيه عوالم متعددة تتبادل عناصرها الأفعال والأدوار والصفات، وتمتد هذه العوالم إلى الذاكرة الثقافية، وإلى الطبيعة الصامتة والصائتة، كما تمتد إلى عالم الاقتصاد المحلي وأدواته إنتاجه. وقد تفاعل الشاعر مع هذه العوالم وأدركها وتمثلها وأعاد ترتيب عناصرها ثم حدد لها وظائف جديدة انطلاقا مما توفره له اللغة من إمكانات كثيرة كالتشبيه والاستعارة والمجاز بصفة عامة.
وتستمر قصة الشيخ أوهاشم الشخصية المرحة والنشطة التي تنتزع البسمة من الشفاه والضحكة من الأعماق وتروي مغامرات تثير العجب وتبعث على الإعجاب، فهو يتمتع بحس فكاهي لطيف حتى داخل بيته المتواضع على سفح جبل حيث يعيش مع رفيقة عمره التي عشقت حياته الفنية.
ومن بين طرائفه، يحكي أوهاشم، أن رجلا ذو مكانة اجتماعية مهمة تملكه (بوتابر) أو العشق الجنوني وكاد يهلكه ولم ينفع معه علاج حتى أشرت عليه بالاستماع الى (تامديازت الحب) التي ألفتها وغنيتها فكانت له بلسما شافيا مما حل به. زاهد في الدنيا لا يبغي منها الا القليل..مؤمن أشد الإيمان بمالك الملك ورازق الخلق وهو ما يردده دوما في دعاء على شكل بيت شعري صوفي معناه “باسمك أبدأ يا من لا يفنى، كلامك عزيز ومقامه عال، أنت الذي ترزق وبيدك المفاتيح، وأنت وحدك القادر على كل شيء”.

بقلم علي الحسني 

 

تعليقات (0)

أضف تعليقـك

Reload Image
أدخل الرمز*: